كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لكن الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له؛ وإنما هو الجهاد في سبيل الله؛ وقد لزمه هذا الشرط لا ينفك عنه أبدًا. وذلك أيضًا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبيين فكرته وإيضاح تعاليمه، كما أشرت إليه آنفًا. وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر، وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو الجهاد في سبيل الله وذلك أن ضيق صدورهم وعدم اتساع مجال تفكيرهم يعوقهم أن يسموا بأنفسهم فوق ذلك ويحلقوا في سماء أوسع من سمائهم. لكن الحق أن سبيل الله في المصطلح الإسلامي أرحب وأوسع بكثير مما يتصورون، وأسمى غاية وأبعد مرامًا مما يظنون ويزعمون..
فالذي يتطلبه الإسلام أنه إذا قام رجل، أو جماعة من المسلمين، تبذل جهودها، وتستنفد مساعيها للقضاء على النظم البالية الباطلة، وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية، فعليها أن تكون مجردة عن كل غرض، مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية، لا تقصد من وراء جهودها، وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل يقوم بالقسط والحق بين الناس، ولا تبتغي بها بدلًا في هذه الحياة الفانية، ولا يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة الله أن ينال جاهًا وشرفًا أو سمعة وحسن أحدوثة، ولا يخطرن بباله أثناء هذه الجهود البالغة والمساعي الغالية أن يسمو بنفسه وعشيرته، ويستبد بزمام الأمر، ويتبوأ منصب الطواغيت الفجرة، بعدما يعزل غيره من الجبابرة المستكبرين عن مناصبهم. وها هو ذا القرآن الكريم ينادي بملء صوته: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}... [النساء: 76].
وقد تضمنت الآية الكريمة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}... [البقرة: 21].
لباب هذه الدعوة، دعوة الإسلام الانقلابية، وجوهرها. فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال، أو الفلاحين، أو الملاكين، أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع، ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم. وإنما يخاطب الإسلام بني آدم كافة. ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري، فهو يأمرهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئًا، ولا يتخذوا إلهًا ولا ربًا غيره. وكذلك يدعوهم ألا يعتوا عن أمر ربهم، ولا يستنكفوا عن عبادته، ولا يتكبروا في أرض الله بغير الحق، فإن الحكم والأمر لله وحده، وبيده مقاليد السماوات والأرض؛ فلا يجوز لأحد من خلقه، كائنًامن كان، أن يعلو في الأرض ويتكبر، ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته. ودعوته لهم جميعًا أن يخلصوا دينهم لله وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة، كما ورد في التنزيل: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله} [آل عمران: 64].
فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل، لا غموض فيها ولا إبهام. فإنه قد نادى بملء صوته: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم}.. [يوسف: 40].
فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطرًا عليهم، يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد. ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى، هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق، وعتو عن أمره، وطموح إلى مقام الألوهية. والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكًا وأمراء إنما يشركون بالله، وذلك مبعث الفساد في الأرض، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.
إن دعوة الإسلام إلى التوحيد، وعبادة الله الواحد، لم تكن قضية كلامية. أو عقيدة لاهوتية فحسب. شأن غيره من النحل والملل؛ بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية؛ واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة. فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان؛ ومنهم من استأثر بالملك والإمرة، وتحكم في رقاب الناس؛ ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض؛ وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به.. فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعًا وتستأصل شأفتهم استئصالًا.. وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرًا وعلانية؛ وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم؛ وينقادوا لجبروتهم؛ مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم؛ أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها؛ فقالوا: {ما علمت لكم من إله غيري}.. و{أنا ربكم الأعلى}.. و{أنا أحيي وأميت}.. و{من أشد منا قوة}.. إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغيًا وعدوانًا. وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم، فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة، يدعون الناس ويريدونهم على أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها، يلعبون بعقول الناس، ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون! فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد، وتنديده بالكفر والشرك بالله، واجتناب الأوثان والطواغيت.. كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها، والذين يجدون فيها سندًا لهم، وعونًا على قضاء حاجاتهم وأغراضهم.. ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة، وخاطبهم قائلًا: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره، وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلمًا وعدوانًا.. خرجت تقاومه، وتضع في سبيل الدعوة العقبات. وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية، أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه، المستبدين بمنابع الثراء، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام!
إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية، وجملة من المناسك والشعائر، كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام. بل الحق أنه نظام شامل، يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم، ويقطع دابرها، ويستبدل بها نظامًا صالحًا، ومنهاجًا معتدلًا، يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى، وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان، وسعادة له وفلاحًا في العاجلة والآجلة معًا.
ودعوته في هذه السبيل، سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء، عامة للجنس البشري كافة، لا تختص بأمة دون أمة، أو طائفة دون طائفة. فهو يدعو بني آدم جميعًا إلى كلمته؛ حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه. واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس.. يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلًا: لا تطغوا في الأرض، وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم، وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه. فإن أسلمتم لأمر الله، ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة، فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحدًا؛ وإنما يعادي الحق الجور، والفساد والفحشاء، وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية، ويبتغي ما وراء ذلك، مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون، وفطرة الله التي فطر الناس عليها.
فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن، يصير عضوًا في الجماعة الإسلامية أو الحزب الإسلامي لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود، أو بين الغني منهم والفقير. كلهم سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأمة على أمة. أو لطبقة على أخرى. وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي، الذي سمي حزب الله بلسان الوحي.
وما إن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها. فمن طبيعته، وما يستدعيه وجوده، أن لا يألو جهدًا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام، واستئصال شأفتها، وأن يستنفد مجهوده في أن يستبدل بها نظامًا للعمران والاجتماع معتدلًا، مؤسسًا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم: كلمة الله. فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع،ولم يسع سعيه وراء تغيير نظم الحكم وإقامة نظام الحق.. نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام.. ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل، فاتته غايته. وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ لأجلها. فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية، وتحقيق هذه البغية.. بغية إقامة نظام الحق والعدل.. ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد في هذه السبيل. وهذه الغاية الوحيدة التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.. [آل عمران: 110].
ولا يظن أحد أن هذا الحزب.. حزب الله بلسان الوحي.. مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين، يعظون الناس في المساجد، ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا! ليس الأمر كذلك! وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده، ويكون شهيدًا على الناس؛ ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم أن يقضي على منابع الشر والعدوان، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت؛ وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة. الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق؛ وجعلوا أنفسهم أربابا من دون الله؛ ويستأصل شأفة ألوهيتهم. ويقيم نظاما للحكم والعمران صالحا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير.. وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.. [الأنفال: 38].
{إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.. [الأنفال: 73].
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.. [التوبة: 33].
فتبين من كل ذلك أن هذا الحزب لابد له من امتلاك ناصية الأمر؛ ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم؛ لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض؛ وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح، ويؤتي أكله، إلا بعدما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين. ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر؛ ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا.
وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب؛ بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم؛ وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة، لا يقدر أن يبقى ثابتًا على خطته، متمسكًا بمنهاجه، عاملًا وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائمًا على أساس آخر، سائرًا على منهاج غير منهاجه. وذلك أن حزبًا مؤمنًا بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص، لا يمكن أن يعيش متمسكًا بمبدئه عاملًا حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادى ء والغايات التي يؤمن بها، ويريد السير على منهاجها. فإن رجلًا يؤمن بمبادئ الشيوعية، إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا، متمسكًا بمبدئه، سائرًا في حياته على البرنامج الذي تقرره الشيوعية، فلن يتمكن من ذلك أبدًا، لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية تكون مهيمنة عليه، قاهرة بما أوتيت من سلطان، فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلا.. وكذلك إن أراد المسلم أن يقضي حياته مستظلًا بنظام للحكم مناقض لمبادئ الإسلام الخالدة وبوده أن يبقى مستمسكًا بمبادئ الإسلام، سائرًا وفق مقتضاه في أعماله اليومية، فلن يتسنى له ذلك، ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبدًا. لأن القوانين التي يراها باطلة، والضرائبالتي يعتقدها غرمًا ونهبا لأموال الناس، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتًا على العدل، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض، ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها، ويرى فيها هلاكًا للأمة.. يجد كل هذه مهيمنة عليه، ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده، بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها. فالذي يؤمن بعقيدة ونظام- فردًا كان أو جماعة- مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها؛ ويعتقد أن فيها سعادة للبشر. لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق. وإذا رأيت رجلا لا يسعى وراء غايته، أو يغفل عن هذا الواجب، فاعلم أنه كاذب في دعواه. ولما يدخل الإيمان في قلبه. وبهذا المعنى ورد في التنزيل: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}... [التوبة: 43- 45].
وأي شهادة أصدق؛ وأي حجة أنصع؛ من شهادة القرآن وحجته؛ ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد؛ ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله، وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه، وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده، فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون...